لقد دفعت بمسودة هذا الكتاب إلى دبلوماسي صديق لي , علّه يقلب صفحاته , فيرشدني إلى الأخطاء والهفوات فيه . ولكنني فوجئت به يزجرني لمحاولتي كشف النقاب عن كثير من الأسرار التي يجب – برأيه – أن تبقى في زوايا النسيان حتى لا تشوه سمعة الحكومة الأمريكية وغيرها من الحكومات أمام شعوبها دون حاجة لذلك أو ضرورة "
هذا ما كتبه ( مايلز كوبلاند ) في معرض التقديم لكتابه ( لعبة الأمم ) .. معترفاً ضمنياً بالمؤامرات التي تحيكها حكومته ضد بلدان العالم أجمع ..
المؤامرة .. تلك الكلمة الساحرة التي مافتئت تشغل الناس , وتخطف أحاديثهم , وتأسر أفكارهم , هل هي موجودة فعلاً ؟ وهل تتحكم في كل مفاصل حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ؟
إن المتتبع للسياسة الدولية , يلحظ بسهولة أنه لا توجد دولة في العالم لا تتعرض لمؤامرة . فسياسة المصالح , والأمن القومي , وحماية الحلفاء .. كلها تدخل في نطاق " المؤامرة " . والولايات المتحدة الأمريكية هي من أكثر الدول المهيمنة في هذا المجال . فالقارئ لكتاب ( مذكرات هنري كيسنجر ) يرى في كل صفحة من صفحاته , كيف تنسج خيوط المؤامرات ضد بلدان العالم تحت مسميات براقة , ولكنها كلها تدخل ضمن نطاق السيطرة والتبعية على تلك الدول .
فالمؤامرة ليست حدثاً طارئاً أو جديداً على وطننا , ومنذ نصف قرن وحتى الآن نبني كل وقائعنا , وتحليلاتنا السياسية , ومعالجاتنا الآنية عليها . بل نذهب بعيداً أكثر , فكل ما يدور حولنا هو عبارة عن مؤامرات خارجية تُبنى في دهاليز المخابرات الأمريكية والأوروبية , وتدعمها الصهيونية والرجعية .
لا أحد يمكنه أن ينكر وجود مؤامرات خارجية على سوريا , ولا أحد يمكنه أن ينكر أن هناك من يحاول استثمار الأزمة السورية , إما لأغراض خاصة , أو تنفيذاً لأجندات خارجية . وها نحن اليوم نرى صوراً كثيرة عنها في العراق وليبيا , التي تقاسمها الغرب تقاسماً فريداً من نوعه , وقبل توقف المعارك بدأت المفاوضات على صفقات النفط , وإعادة أعمار ما خربه حلف شمال الأطلسي وأبناء ليبيا .
إلا أن الإمعان في تسليط الضوء على تلك المؤامرة , لن يؤدي إلى حلها أو التخلص منها . لقد استسلمنا إلى وجود المؤامرة أيما استسلام , فأصبحت في عرفنا السبب المباشر في تغييب الديمقراطية , وتخلف التنمية , وانتشار الفساد , وهزل الاقتصاد , وضعف المجتمع المدني , وتأخر التكنولوجيا .... وعلى الرغم من المناداة دائماً عبر كل الوسائل السمعية والبصرية والالكترونية بضرورة إعمال العقل والمنطق في التصدي لتلك المؤامرة , وضرورة فهم كل الظروف والعوامل والحيثيات المحيطة ( إقليميا ودولياً ) , وعلى الرغم من وجود تجارب ناجحة ماثلة أمامنا مثل اليابان وماليزيا وسنغافورة ... الخ . إلا أن فكرة المؤامرة ( الأبدية ) على وطننا أخذت منحى آخر في الوسائل . فالمؤامرة أصبحت شماعة نعلق عليها عيوبنا , وتبريراً جاهزاً لعدم قدرتنا على تجاوز تلك العيوب , بل أكثر من ذلك فوجود المؤامرة في حياتنا أصبح يدغدغ مشاعرنا , وربما بلغت مبلغ المخدر الذي يُشعرنا أن كل شيء حولنا هو على ما يرام ولكن الأخطاء حولنا هي خطأ المتآمرين علينا.
رب سائل يقول " وكأنك بهذا الكلام تستنكر المؤامرة ؟ " . وأجيب لا أحد يبرئ أطرافاً بذاتها بحبك المؤامرات وصوغها ضد وطننا , بدءاً من أمريكا وانتهاء بإسرائيل ومروراً بعملائهما في المنطقة , إلا أن تلك المؤامرة لا يمكنها أن تنفذ إلا من منافذ الضعف في كياننا . وعلى الرغم من رفض هذا التآمر واستنكاره من الدول التي تنسجه , نرى الرافضين أحياناً يستشهدون كثيراً بسلوك ومقولات مسؤولين من تلك الدول تؤيد وجود المؤامرة أو تنفيها.
إن ما يحكمنا الآن في وسائل إعلامنا وتصريحات محللينا هو من أشد مظاهر الضعف في الاستسلام لفكرة المؤامرة التي تحاك ضدنا , فالمواجهة الحقيقية والفاعلة لا تكون إلا بالعمل الدائب بلا خوف أو تردد , ووسائل مواجهة المؤامرة ليست بعيدة المنال , ولكنها في يدنا نحن , وبدلاً من التحليلات المتكررة , واللقاءات المؤيدة .. والندوات الشارحة , لعمق تلك المؤامرة , علينا أن نجد الحلول في المسير قدماً نحو الديمقراطية والإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي الحقيقي , وليس المناداة فقط بهذا الإصلاح أو جعله شعاراً آخر من شعاراتنا .
لقد استقلت فيتنام عن الاستعمار الفرنسي عام ( 1945 ) وتعرضت بعد ذلك لحروب كثيرة حولت أراضيها يباباً يابساً .. وأنهت المؤامرة الأمريكية عليها عام ( 1975 ) أي بعد ما يقارب الثلاثين عاماً من استقلال سوريا عن الاستعمار الفرنسي .. وهاهي الآن وعلى الرغم من كل الحروب والمؤامرات التي تعرضت لها تحاول اللحاق بركب النمور الآسيوية , فتغرق السوق الأمريكية بالالكترونيات والألبسة .. لأنها أدركت تماماً أن عليها الآن العمل بجد لبناء ما دمرته الحرب , وأن قوتها لا بد أن تنبع من الذات , وليس من دعم الخارج الذي يعمل لمصالحه .
إن استقلال الدول هو أمر مقدس يجب أن لا يتطاول عليه أحد لأي سبب كان . وكذلك فإن حق الشعب أن يعيش في أمان في ظل احترام لحقوق الإنسان , فالكرامة الإنسانية هي أهم معالم القرن الحالي , ومهما كان طريق البناء طويلاً وشاقاً فإنه باعتقادي يستحق أن نسير فيه , بعيداً عن الاستكانة لفعل المتآمرين الذين يرون في استكانتنا ومتابعتنا الحثيثة لاستنكار مؤامراتهم ومحاولة دحضها بالندوات التلفزيونية والخطب الحماسية والإعلام المتخبط , أمراً مضحكاً ومثيراً للشفقة والسخرية بآن .
" ما دخل اليهود من حدودنا ... وإنما تسربوا كالنمل من عيوبنا " ... رحم الله نزار قباني - بقلم: يوسف بحصاص
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق