الخميس، يوليو 28، 2011

ليبيا : فصل الخطاب فيمن خرج عن الكتاب وقال لا يجوز الخروج عن الحكام

بسم الله الرحمن الرحيم
فصل الخطاب فيمن خرج عن الكتاب وقال لا يجوز الخروج عن الحكام
خرج علينا في هذه الأيام العصيبة التي تمر فيها ليبيا الحبيبة بعض من يدعون السلفية بفتاوى تحرم الخروج على الحاكم، وتوجب طاعة ولي الأمر وإن جار وظلم، ونصوا على حرمة الخروج على القذافي لأنه ولي الأمر. وأود أن أذكر القول الصحيح في هذه الفتوى لبيان الحق في ذلك والله الموفق:
الأصل في ولي الأمر أن يلتزم في نهجه الحكم بكتاب الله عز وجل وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما هو مقرر فيهما من مبادئ وقواعد للحكم، لأنه مكلف برعاية أمور الأمة، وتدبير شؤونها بما يوافق الشرع.
ومادام ولي الأمر قائماً بواجباته الملقاة على عاتقه، عادلاً بين رعيته، فإنه لا يجوز الخروج عليه، لورود نصوص كثيرة تتوعد الخارج بعذاب عظيم، ومن خرج على الإمام العادل يعد باغياً، ويجب على الأمة أن تقاتله وتنتصر لولي الأمر وتقف إلى جانبه. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من رأى من إمامه شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية"، وقال عليه الصلاة  والسلام:" من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبراً، فمات عليه، إلا مات ميتة جاهلية".
فهذان الحديثان وغيرهما يدلان على الالتزام بالبيعة، وعدم الخروج على الإمام العادل، حفظاً للمجتمع من الفوضى التي يسببها الخروج والعصيان. ثم إن الحديث يحذر أفراد الناس من الخروج على ولي الأمر ومفارقة جماعة المسلمين، وهذا يفهم منه أن خروج الجماعة بأكملها على ولي الأمر لسبب مخل فيه مثل: الكفر أو الفسق أمر جائز شرعاً لأنه بكفره أو فسقه لم يعد صالحاً لحكم الأمة.
وعدم الخروج على ولي الأمر مقيد بما إذا كان الإمام ملتزماً في الجملة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان آمراً بالشرع كما ورد في أحاديث كثيرة، كقوله عليه الصلاة والسلام:" ما أقاموا فيكم الصلاة"، وهي كناية عن القيام بأمر الشرع، وقوله صلى الله عليه وسلم:" ما لم يظهر منهم الكفر البواح"، وقوله عليه السلام:" ما لم يأمر بمعصية".
قال تعالى:" ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، هذه الآية تدل بوضوح على أن طاعة الله طاعة مطلقة ابتداء، وكذا طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما طاعة أولي الأمر فهي طاعة تبعية ومقيدة بطاعتهم لله ولرسوله.
قال الإمام الرازي رحمه الله تعالى: ( اعلم أنه تعالى لما أمر الرعاة والولاة بالعدل في الرعية، أمر الرعية بطاعة الولاة، فقال:" ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا له ويطيعوا).
وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه طلحة والزبير وكعباً وسلمان رضي الله عنهم عن الفرق بين الخليفة والملك، فقال سلمان رضي الله عنه: الخليفة الذي يعدل في الرعية، ويقسم بينهم بالسوية، يشفق عليهم شفقة الرجل على أهله، ويقضي بينهم بكتاب الله تعالى.
ونص ابن تيمية رحمه الله تعالى على وجوب طاعة الإمام الحاكم بما أنزل الله تعالى فقال: ( من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية، إذا كان الإمام عادلاً براً تقياً).
وعن كعب بن عجرفة رضي الله عنه قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فقال:" من ها هنا؟ هل تسمعون؟ إنه يكون من بعدي أمراء يعملون بغير طاعة الله، فمن شركهم في عملهم وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، ومن لم يشركهم في عملهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فهو مني وأنا منه". فما بالك بالذي جهر بكفره وخرج على ملة الإسلام، وظلم الناس، فهل لنا أن نعينه ونناصره، كما يفعل إخوتنا السلفية في داخل ليبيا الحبيبة.
الحاكم الكافر
وظيفة ولي الأمر هي حراسة الدين وسياسة الدنيا، لتحقيق إقامة أمر الله عز وجل في الأرض على الوجه المشروع، كما بين ذلك الله عز وجل في قوله:" الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور".
قال الإمام الجويني رحمه الله تعالى: ( إن الغرض من الحكم استيفاء قواعد الإسلام طوعاً أو كرهاً، وعلى هذا فالحاكم في الدولة الإسلامية هو المسؤول الأول عن تنفيذ شرع الله، ومقابل ذلك منحته الأمة السلطان والسيادة، وطالبته بوجوب تطبيق الإسلام عقيدة وشريعة، وهذا ما دلت عليه النصوص وما صرح به فقهاء الأمة).
إذا ارتد ولي الأمر عن الإسلام صراحة بقول أو فعل باختياره وإرادته- كما فعل القذافي عندما رد السنة النبوية، وقال بحذف كلمة (قل) من القرآن، وأسس الجيش الجنوبي في السودان الذي قاتل المسلمين، وأمر بمذبحة بوسليم، وجاء بشرع كله كفر يخالف شرع الله عز وجل جملة وتفصيلا- فيجب على الأمة ممثلة في أهل الحل والعقد إن وجدوا خلعه بكل وسيلة وتقديمه إلى القضاء لمعاقبته على ردته، فإن امتنع ولم يمتثل إلى قرار عزله، وجب على الأمة جميعاً حينئذ الخروج عليه بقوة السلاح حتى ينخلع، وهذا ما أجمعت عليه الأمة.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: ( إنه- أي الحاكم- ينعزل بالكفر إجماعاً، فيجب على كل مسلم القيام في ذلك، فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض).
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: ( أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر، وتغير للشرع خرج عن حكم الولاية، وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه، ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع إلا لطائفة، وجب عليهم القيام بخلع الكافر).
وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: ( وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وإن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء، ولم يستثنوا من ذلك، إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح، فلا تجوز طاعته في ذلك، بل يجب مجاهدته لمن قدر عليها).
وقال الباقلاني رحمه الله تعالى: ( إن قال قائل: ما الذي يوجب خلع الإمام عندكم؟ قيل له: يوجب ذلك أمور منها: كفر بعد إيمان، ومنها تركه إقامة الصلاة والدعاء إلى ذلك، ومنها عند كثير من الناس فسقه وظلمه بغصب الأموال، وضرب الأبشار، وتناول النفوس المحرمة، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود).
فهذه الأقوال تدل صراحة على عدم طاعة ولي الأمر ووجوب الخروج عليه إذا ارتد عن دين الإسلام. وهناك نصوص من القرآن والسنة تؤيد ذلك نذكر منها ما يلي:
1- قوله تعالى:" ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا". فهذه الآية تبين بوضوح عدم جواز أن يكون للكافرين سلطان على المؤمنين بأي حال من الأحوال في الحكم وغيره.
2- قوله تعالى:" ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم". فقد اشترطت هذه الآية شرطين لطاعة ولي الأمر وهما: أحدهما: أن يكون ولي الأمر من المؤمنين، لأن الخطاب القرآني موجه للمؤمنين. والثاني: أن طاعة ولي الأمر مقيدة بطاعة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا لم يجعل الله عز وجل طاعة ولي الأمر مطلقة كما جعلها له سبحانه ولنبيه عليه الصلاة والسلام، فمتى أطاع ولي الأمر الله ورسوله وجبت طاعته وإلا فلا، وهذا ما قاله أبوبكر الصديق رضي الله عنه: ( أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم).
وهذا الشرطان لا ينطبقان على القذافي بحال، فهو ليس بمؤمن حتى تجب طاعته، بل هو كافر بين كفره، وقد كفره كثير من العلماء على رأسهم الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى، والشيخ اللحيدان، وهيئة كبار العلماء في السعودية. ولا يطبق حكم الله عز وجل، وقد قال الله عز وجل:" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، وقال سبحانه:" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون"، وقال:" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون".
وأكثر من ذلك أن القذافي جاء بتشريع يخالف القرآن والسنة، وقد قال الله تعالى:" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلوا تسليماً". وبذلك فقد السمع والطاعة من المسلمين في ليبيا، فيجب عزله إذ لا معنى لبقائه في حكمه مع سقوط طاعته والسمع له، وهذا ما قام به الليبيون  في هذه الأيام المباركة.
3- عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا: على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثر علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال:" إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان". وهذا حديث صريح في وجوب منابذة الحاكم إذا ظهر منه الكفر الصريح، والقذافي كافر كفراً صريحاً كما بينت سابقاً، وبالتالي يجوز الخروج عليه ولا تجب طاعته بأي حال من الأحوال.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى: (إنه- أي الحاكم- ينعزل بالكفر إجماعاً، فيجب على كل مسلم القيام في ذلك، فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض).
4- عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" على المرء المسلم السمع والطاعة، فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة". وما فعله القذافي من رد للسنة، وحذف لكلمة (قل) من القرآن، ما هو إلا كفر بواح ولهذا لا تجوز طاعته بأي حال من الأحوال، ولا إعانته كما يفعل بعض السلفية داخل ليبيا وخارجها في هذه الأيام، ويجب عزله.
5- عن عكرمة رحمه الله تعالى قال: إن علياً رضي الله عنه حرق قوماً، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تعذبوا بعذاب الله"، ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" من بدل دينه فاقتلوه". فالحديث صريح في أن عقوبة المرتد القتل سواء كان حاكماً أو محكوماً، والذي يتولى عقوبة المحكوم إذا ارتد هو الحاكم أو من ينوب عنه ولا يترك ذلك للعامة، أما الحاكم إذا ارتد فالذي يتولى عقوبته هم أهل الحل والعقد إن وجدوا وقدروا عليه، وإن لم يقدروا فإن هذا الحق يرجع إلى عامة الشعب، ولها حينئذ الخروج عليه، وإزالته من الحكم.
5- عن يحي بن حصين قال: سمعت جدتي تحدث أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع وهو يقول:" ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا له وأطيعوا". وهذا صريح في وجوب طاعة ولي الأمر ما دام يقودها بكتاب الله عز وجل، فإن مال عن الحكم بما أنزل الله، فلا سمع له ولا طاعة، ويترتب على ذلك عصيان أمره، وخلعه من منصبه، فإن أبى خرج الناس عليه.
الحاكم الفاسق والجائر
الفسق: هو الخروج عن طاعة الله عز وجل، فقد يطلق على من خرج بكفر، وعلى من خرج بعصيان.
والفسق: الخروج من الاستقامة، وقوله تعالى:" ولا فسوق"، أي: ولا خروج من حدود الشريعة، وقيل للعاصي فاسق لخروجه على ما أمر الله به.
وقد جعل الإمام الماوردي الفسق على ضربين، فقال: ( فأما الجرح في عدالته- أي الإمام- وهو الفسق، فهو على ضربين: أحدهما: ما تابع فيه الشهوة، والثاني: ما تعلق به بشبهة، فأما الأول منهما: فمتعلق بأفعال الجوارح، وهو ارتكابه للمحظورات وإقدامه على المنكرات، تحكيماً للشهوة، وانقياداً للهوى، فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة واستدامتها، فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها، وأما الثاني: فهو متعلق بالاعتقاد المتأول بشبهة تعترض، فيتأول لها خلاف الحق).
والجور: هو ظلم الناس بصفة خاصة، فيدخل فيه غصب الأموال وضرب الأبشار، وتناول النفوس المحرمة وتضييع الحقوق، ونحو ذلك من التعديات على الرعية بغير وجه مشروع.
إذا طرأ على ولي الأمر فسق بعد توليه الإمامة، وجب خلعه، لأن السبب المانع من استمراره هو عدم الثقة به، فهو غير مأمون في دينه، والإمامة أمانة، وبقاؤه يجعل مصالح الناس وأعراضهم وأموالهم عرضة للخطر، وقد نقل هذا عن كثير من أهل العلم.
قال إمام الحرمين رحمه الله تعالى: ( قد ذهب طوائف من الأصوليين والفقهاء إلى أن الفسق إذا تحقق طريانه أوجب انخلاع الإمام كالمجنون).
وقال أيضاً: ( وإذا جار الولي، وظهر ظلمه وغشه، ولم يرعو عما زجر عن سوء صنيعه،
فلأهل الحل والعقد التواطؤ على درئه، ولو بشهر الأسلحة ونصب الحروب).
وقال القرطبي رحمه الله تعالى: ( الإمام إذا نصب ثم فسق بعد انبرام العقد، فقال الجمهور إنه
تنفسخ إمامته، ويخلع بالفسق الظاهر المعلوم، لأنه قد ثبت أن الإمام إنما يقام لإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، وحفظ أموال الأيتام والمجانين، والنظر في أمورهم، إلى غير ذلك مما تقدم ذكره، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بهذه الأمور والنهوض بها، فلو جوزنا أن يكون فاسقاً أدى إلى إبطال ما أقيم له، وكذلك هذا مثله).
وقال الشهرستاني رحمه الله تعالى: ( وإن ظهر بعد ذلك أي بعد التولية جهل أو جور أو ضلال أو كفر انخلع منها أو خلعناه).
وقال ابن عيينة رحمه الله تعالى: ( لا يكون الظالم إماماً قط، وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة، والإمام إنما هو لكف الظلمة؟! فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه، فقد جاء المثل السائر من استرعى الذئب ظلم).
وقد نسب ابن حزم رحمه الله تعالى هذا القول إلى كثير من أهل السنة، فذكر من الصحابة علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن قاتلوا معه، والزبير وطلحة وعائشة وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، ومن التابعين ذكر مالك بن أنس وسعيد بن جبير والحسن البصري والشعبي ومحمد بن عبد الله بن الحسن وأخاه إبراهيم، وقال: ( وهو الذي تدل عليه أقوال الفقهاء كأبي حنيفة ومالك والشافعي وداود وأصحابه، فإن كل من ذكرنا إما ناطق ذلك بفتواه، وإما فاعل ذلك بسل سيفه في إنكاره ما رآه منكراً).
وقد تشدد موقف ابن حزم رحمه الله تعالى في سلاطين الجور والفسق تشدداً كثيراً، حتى ذهب إلى أن الأخبار التي فيها خلاف الخروج على سلاطين الجور والفسق منسوخة، حيث قال: ( وهذه الأحاديث- الآمرة بالخروج- ناسخة للأخبار التي فيها خلاف هذا، لأن تلك موافقة لما كان عليه الدين قبل الأمر بالقتال، ولأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باق مفترض لم ينسخ، فهو الناسخ لخلافه بلا شك).
والأدلة التي تدل على وجوب الخروج على أئمة الجور والفسق كثيرة نذكر منها ما يلي:
1- قوله تعالى:" وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله". فهذه الآية شاملة لكل باغ، فكل من أظهر البغي والجور والظلم واعتدى على الأنفس والأموال كان باغياً، ووجب قتاله مع أنه لم يوصف بالكفر، بل وصف بالإيمان لقوله تعالى:" وإن طائفتان من المؤمنين".
2- قوله تعالى:" وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان". ولا شك أن فسوق الإمام وجوره إثم وعدوان، وعدم الخروج عليه والسكوت عنه من التعاون على الإثم
والعدوان المنهي عنه، وهذا حرام بنص الآية.
3- قوله تعالى:" ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون"، وقوله:" والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم" وغيرهما من الآيات.
قال الشوكاني رحمه الله تعالى: ( واستدل القائلون بوجوب الخروج على الظلمة، ومنابذتهم بالسيف، ومكافحتهم بالقتال بعمومات من الكتاب والسنة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
4- عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية:" ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم"، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه". وقد عنون الترمذي رحمه الله تعالى لهذا الحديث فقال: باب في نزول العذاب إذا لم ينكر المنكر.
5- عن عمرو بن عون عن هشيم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لم يغيروا، إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب".
وفي رواية:" ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا"
وهذان الحديثان فيهما تشديد على أن من يرى "المعاصي" أي الذنوب تظهر من الحاكم، ويكون قادراً على تغيير ذلك ولو بالقوة، ولم يفعل إلا عاقبه الله تعالى على ذلك بعذاب في الدنيا قبل الآخرة.
6- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى أخاه، فيقول: ياهذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض"، ثم قال" لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم" إلى قوله:"فاسقون"، ثم قال:" كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر،
ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً". فالحديث واضح الدلالة في أن الحاكم إذا انحرف عن الحق، فلا يحل للأمة السكوت عليه، وإعانته على ظلمه، ولابد من الأخذ على يديه، ولو بالقوة لرده عن ظلمه.لقوله صلى الله عليه وسلم:" إنه سيكون بعدي أمراء، من صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد على الحوض، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه، وهو وارد على الحوض".
7- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، ومن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"
وفي رواية قال:" ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل). يدل الحديثان على وجوب جهاد المبطلين الظالمين باليد وهي المرتبة الأولى التي يلجأ إليها القادر لرد هؤلاء عن غيهم وظلمهم، وإلا جاهدهم بلسانه، وإن لم يقدر على ذلك لضعف وقلة أنصار، جاهدهم بقلبه، وهو أن يكره ما عليه هؤلاء الظلمة، وينوي إن قدر على مجاهدتهم بيده أن لسانه فعل ذلك.
8- عن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير بقول ولا فعل، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله".
9- خروج جماعة من السلف على أئمة الجور والظلم: وذلك مثل خروج الحسين بن علي رضي الله عنهما على يزيد بن معاوية، وخروج أهل المدينة على يزيد بن معاوية وخلعهم بيعته، وخروج عبدا لله بن الزبير رضي الله عنه بعد موت يزيد بن معاوية، وخروج ابن الأشعت رحمه الله تعالى على الحجاج وعبد الملك بن مروان وغيرهم. فهذا الجمع من السلف خرجوا على السلاطين، ولو كان السمع والطاعة واجبة لهولاء وإن ظلموا وإن فسقوا لما ارتكب هؤلاء ما ارتكبوا، وهم أعلم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من بعدهم من العلماء الذين منعوا الخروج على أهل الجور والظلم.
10- أقوال من السلف تدل على جواز الخروج على الحاكم الظالم الجائر نذكر منها ما يلي:
عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لما بايعه الناس على الخلافة: ( أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني)، إلى أن قال: ( أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم).
ولما قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً على منبره قائلاً: ( أيها الناس من رأى منكم في اعوجاجاً فليقومه)، فأجابه أحدهم: ( لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا)، فقال عمر رضي الله عنه: ( الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقوم اعوجاج عمر بسيفه).
عن ابن عباس رضي الله عنهما أمع قال: ( لا يلزم الوفاء بعهد الظالم، فإذا عقد عليك في ظلم فانقضه).
وقال الجصاص رحمه الله تعالى عند قوله تعالى:" لا ينال عهدي الظالمين": ( فلا يجوز أن يكون الظالم نبياً، ولا خليفة لنبي، ولا قاضياً، ولا من يلزم الناس قبول قوله في أمور الدين من مفت ولا شاهد)، إلى أن قال: ( فثبت بدلالة هذه الآية بطلان إمامة الفاسق، وأنه لا يكون خليفة، وأن من نصب نفسه في هذا المنصب وهو فاسق لم يلزم الناس إتباعه، ولا طاعته. ودل أيضاً على أن الفاسق لا يكون حاكماً، وأن أحكامه لا تنفذ إذا ولي الحكم).
وروى الطبري رحمه الله تعالى عن سعيد بن عبد الحميد أنه قال: أخبرني غير واحد أن مالك بن أنس استفتى في الخروج مع محمد بن عبد الله، وقيل له: إن له في أعناقنا بيعة لأبي جعفر، فقال: إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين.
فتبين لنا مما تقدم أنه يجب طاعة ولي الأمر العادل، وأنه لا يجوز الخروج عليه، أما الحاكم الكافر والمرتد فإنه لا تجب طاعته ويجب الخروج عليه، وكذا الحال بالنسبة للحاكم الفاسق والجائر. والقذافي رجل قد ارتد عن دين الله عز وجل بقوله وفعله، ولم ينقل لنا أنه رجع وتاب عن أقواله وأفعاله، وهو بهذا الحال يجوز بل يجب الخروج عليه وإزالته عن حكم ليبيا، وما يجري في ليبيا الحبيبة هو جهاد بإذن الله عز وجل، وأنه من قتل فهو في سبيل الله، لأننا لا نسمع ممن خرج عن القذافي إلا التوحيد والتكبير، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد"، وما خرج إخواننا في ليبيا إلا دفاعاً عن الدين والأهل فهم شهداء إن شاء الله تعالى.
وأنصح ممن يدعي السلفية من خارج ليبيا، أن ليبيا فيها علماء والحمد لله وهم أعلم بحال بلدهم منكم، لأنكم لا تدرون ما جرى هناك وما يجري الآن، فاتقوا الله ولا تتعجلوا في الفتوى، لأن مسألة الخروج عن ولي الأمر مسألة فيها تفصيل، وليس كما تدعون.
وأما السلفية في داخل ليبيا الحبيبة فأنصحهم أن يتقوا الله عز وجل ولا يكونوا مع حاكم ظالم جائر كافر، قال الله تعالى:" ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار"، فإن كنتم تعتقدون أنه لا يجوز الخروج على الحاكم، فلا تعينونه على المسلمين، ولا تجعلوه يستخدمكم في هذا الظرف من خلال التلفاز والمساجد،  وأنتم تعلمون أنه لا يحب الإسلام، وأنه قد سجنكم سابقاً، وأنكم والله مسؤولون أمام الله عز وجل، فلا تذهبوا إلى قنواته، وإن إجبرتم فعمومي في القول ولا تفصلوا جزاكم الله خيرا.
كتب في 30 ربيع الأول 1432 الموافق 5 مارس 2011
الدكتور أحمد الطرابلسي
طالب علم ليبي
   
-

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق