هناك سوابق تحمل إجابات إيجابية، وهناك على العكس من ذلك سوابق تحمل إجابات سلبية. ومن السوابق الإيجابية الحرب التي شنتها إسرائيل على مصر في عام 1967. إذ أدى العدوان الجوي إلى ليِّ ذراع سلاح الطيران المصري وشله تماماً.
ومنها أيضاً حرب رمضان 1973 التي شنتها مصر وسوريا على إسرائيل، إذ تمكن القصف الجوي المصري من شل القوات الإسرائيلية في سيناء، وتاليّاً من تمكين القوات المصرية من عبور قناة السويس إلى الشاطئ الشرقي.
ومن هذه السوابق كذلك القصف الجوي الإسرائيلي لمفاعل تموز النووي قرب بغداد في عام 1981 الذي قضى على المشروع النووي العراقي. وقد قامت إسرائيل بالعملية ذاتها ضد سوريا في عام 2007 أيضاً.
ولكن من أبرز وأهم هذه السوابق القصف الأميركي لليابان في عام 1945 عندما أسقطت طائرتان أميركيتان من نوع "ب 29" قنبلتين نوويتين على كل من هيروشيما وناكازاكي أدتا إلى مقتل 75 ألف ياباني. كما أن سلاح الجو الأميركي قام بقصف 63 مدينة يابانية أخرى بما فيها طوكيو ودمرها عن آخرها، حتى أن الجنرال "كورتيس لي ماي" قائد سلاح الجو الأميركي أثناء الحرب شكا من أنه لم تعد لديه أهداف يابانية للقصف بعد أن تم تدمير البنية الصناعية لليابان. وقد نجح هذا النوع من القصف في دفع اليابان لقبول شروط الاستسلام وإنهاء الحرب.
أما السوابق التي أدت إلى نتائج سلبية فعديدة أيضاً، لعل من أبرزها القصف الأميركي على فيتنام الشمالية. فعلى رغم أن حجم القصف بموجب عملية "الرعد المتدفق" كما أطلق عليها وزير الدفاع الأميركي في ذلك الوقت روبرت مكنمارا، زاد عن حجم كل ما أسقطته الولايات المتحدة من قنابل أثناء الحرب العالمية الثانية، فإن النتيجة كانت هزيمة عسكرية- سياسية مذلة للولايات المتحدة. وجسدت تلك الهزيمة عملية الجلاء من السفارة الأميركية في سايغون على متن طوافات عسكرية.
ومن هذه السوابق أيضاً، الحرب الأميركية على كوريا في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي 1950- 1951. فقد دمر القصف الأميركي كل الطرق والجسور وخطوط السكك الحديدية، كما دمر المطارات والمصانع الكورية الشمالية.. إلا أن الحرب انتهت بهدنة لا تزال مستمرة حتى الآن. وتحت مظلة هذه الهدنة طورت كوريا الشمالية سلاحها الصاروخي وأصبحت دولة نووية.
ومن هذه السوابق كذلك القصف الألماني النازي على بريطانيا وعلى عاصمتها لندن، خلال الحرب العالمية الثانية. فالقصف الذي دمر مواقع عسكرية ومدنية فشل في إثارة الذعر في قلوب البريطانيين وفي إرهاب الدولة البريطانية وفرض تنازلات سياسية عليها.. وانتهت الحرب بهزيمة هتلر وانتصار غريمه تشرشل.
والعقدان الأخيران عرف العالم قبل أحداث ليبيا تجربتين أعطت كل منهما نتائج متناقضة. فالقصف الأميركي على العراق في عام 1991 بعد انسحابه من الكويت لم يتمكن من أن يلوي ذراع صدام، إلى أن شنت الولايات المتحدة الحرب عليه في عام 2003.
أما القصف الأميركي (تحت مظلة حلف شمال الأطلسي) لصربيا ولعاصمتها بلغراد في عام 1999 فقد نجح في وقف حملات الإبادة التي كانت القوات الصربية تقوم بها في البوسنة والهرسك تحديداً وضد شعوب البلقان عامة. كما أدت إلى استقلال كوسوفا وإلى انسحاب القوات الصربية منها.
وفي ضوء كل هذه التجارب بنتائجها الإيجابية والسلبية، أي مصير ينتظر ليبيا بعد أسابيع من تعرض المدن التي تخضع لسيطرة القذافي لقصف سلاح الجو التابع لحلف شمال الأطلسي؟
هل يواجه القذافي مصيراً مماثلاً لمصير ميلوسوفيتش فيستسلم تحت شدة القصف، ومن ثم يحاكم أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي؟ (مات ميلوسوفيتش في المعتقل قبيل صدور الحكم عليه).
لا شك في أن القذافي يتصور نفسه "هوشي منه" ثانٍياً. وربما تشرشل ثانٍياً. ولا شك في أن خصومه من الليبيين في بنغازي يتمنون له مصيراً كمصير هتلر. ويتمنون أن يروه في قفص الاتهام إلى جانب الرئيس الليبيري السابق تايلور. ومهما يكن من أمر فإن القذافي يراهن على قدرته على تجنب ضربات سلاح طيران حلف الأطلسي حتى يصاب الحلف بالإحباط ويضطر إلى التراجع تحت ضغط العجز عن تحمل نفقات الحرب الجوية. وكذلك تحت الضغط السياسي الذي تمارسه روسيا والصين.
لقد بلورت هذه التجارب بكل ما فيها من إيجابيات وسلبيات نظرية عسكرية جديدة تقول: إن سلاح الطيران لم يعد قادراً وحده على حسم الحرب على الأرض. أو أن قدرته على ذلك أصبحت بالغة الصعوبة. وعلى رغم أن القذافي لا يملك دفاعاً جويّاً، والقليل الذي كان يملكه تم تدميره، وعلى رغم التفوق اللامحدود لقوات الأطلسي الجوية، فإن عجز الحلف عن الحسم العسكري بدأ يلقي بظلاله الثقيلة على معنويات دول الحلف والرأي العام فيها.. ويؤكد في الوقت ذاته النظرية الجديدة.
لقد أدى القصف الأميركي على ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية إلى مقتل 350 ألف ألماني.. ولكن هتلر نجا ونجت معه حكومته. ولم ينتحر في مخبئه -الذي يماثل المخبأ الذي يقيم فيه اليوم القذافي- إلا بعد أن اجتاحت القوات السوفييتية ألمانيا من جهة الشرق ووصلت إلى برلين، واجتاحت القوات الأميركية ألمانيا وحاصرت عاصمتها من الغرب.
ومن هنا السؤال: هل يؤدي عدم الحسم بقوة سلاح الطيران إلى التحرك الميداني؟ وهل يعطي مجلس الأمن الدولي ضوءاً أخضر بذلك؟ وهل تمتنع روسيا والصين عن استخدام حق النقض ضد قرار من هذا النوع كما فعلتا عندما اتخذ المجلس القرار الأول للدفاع عن سلامة المدنيين الليبيين؟
لا شك في أن القيادة السياسية لحلف الأطلسي التي ضاقت ذرعاً بتأخر الحسم العسكري، تدرك استحالة الحصول على مثل هذا القرار من مجلس الأمن. ولا شك أيضاً في أنها هي نفسها لا ترغب في استصدار قرار من هذا النوع لأنها لا تريد الغوص في رمال ليبيا المتحركة وتعريض جنودها للخطر. ولذلك فإنها تطارد القذافي وتحاول اصطياده اعتقاداً منها بأن القضاء عليه كافٍ وحده لحسم المعركة وفتح صفحة جديدة في التاريخ الليبي الحديث. فإلى متى يستطيع القذافي أن يصمد؟
محمد السماك
المصدر الأتحاد الأمارتية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق